Thursday, January 17, 2008

ما أخفَتْـهُ "أنا" عن "هو"

استيقظ النهار متشائماً كواجبٍ لا بد منه.. تخلّص سريعاً من خيوط المساء المتعرقة على جسده.. واغتسل من شراشف الحلم الذي يسميه كابوساً!.. و بدأ في كابوس حياته المقررة له دون أن يقررها هو..

تزامن مروري مع مرور باص ضاحية الرشيد في الشارع الذي ما عاد شارعاً للمشاة بل تجمعاً لحصى البناء وتلال الرمل المتروكة من شاحنةٍ تقيّأتها .. و أقدام عمّالٍ يبنونَ عمارة، و يسحقون الطريق الذي كان طريقاً من أشجارٍ و قططَ و عصافير..

النهار متشائماً بدا في أول الطريق.. رطباً حدّ اللزوجة.. غبارياً أصفرَ كاكتئابٍ صريعٍ في زاويةٍ مظلمة..

أنا لم يُشعرنِ ذلك بالتشاؤم، هو غطس به الشعور حتى ذقنه و ابتلّت شعيرات لحيته بأدران التشاؤم وصار لصوتهِ رائحة الغبار و لشَعرهِ لونه و قشرةٌ ادّعى أنها من حالتهِ النفسية!

الباص الذي يتزامن مع مروري يومياً في ذات الشارع أثار حفيظتي في أنه يقصدني! ليس الباص بل القدَر، قدَري!! أيسخرُ مني كل يوم..؟ حتى إن تأخرتُ يتأخر الباص، و إن أبكرتُ يُبكر!! أحياناً أقرر أن أسلك الطريق الفرعي الذي لا يمر به الباص لكنه يطل على الطريق العام.. و حين أتوازى معه أسمع صوت محرك الباص، كأنه يسخر من حيلتي و يزيدني غيظاً من قدَري!!

نهار اليوم ليس حسن المزاج، مزاجي اليوم حيادي كأوراق الخريف! حاد، جاف، لا مبالٍ..

أستعرض الشارع، أترك الأرصفةَ المسحوقة الأشجار، الضيّقة بالمارة، و أنعطفُ مع الطريق.. كسيارةٍ قديمةٍ تسير بسرعةٍ متغيرة تَبعاً لزيتها و أفكارها المتشدّقة بما يحدث حولها من نزوات النهار الذي كان للآن متمرداً على كل شيء، ربما حتى على نفسه!

في المساء انصرف النهار دون أن يصبغ وجهي بلونه، نظرتُ في المرآة.. كنتُ ما أزالُ أنا! و كان هو لم يزل هو.. مع أنه مصبوغٌ بلون المساء الذي أتى!!.. هناك أناس لهم القدرة على التصبغ بكل الألوان.. لم أستطع تغيير صبغتي فأُصِبْتُ بالفضيحة.. هو استطاع فلم يظهر عليه عارض الصيف..

كنتُ صافيةً كشتاء.. مفضوحةً بي.. كان بماهيةٍ مُتقلِّبة كنهارات المدينة التي تقطن ذاكرتي في غيابه..

كنتُ أشتكي من استمرار كوابيس الغبار في رأسي، حتى أن حساسيةَ الشعور تتنقطُ على وجهي بلونٍ بنفسجي.. كان نائماً باطمئنان طفل.. له ملامحه و أحلامه و هدوئه.. لا شيء على وجهه يفضحه سواي!

نام النهارُ كما استيقظ، متشائماً.. بعد أن أخذ حبوباً منومة، ربما لم تكن كذلك لكنها كانت تعطيه شعوراً بالاسترخاء، فنام باكراً..

سهرتُ على الشرفةِ وحدي.. زهر الليل يطلق رائحته إلى أنفي.. الرائحة تضلّ طريقها و تذهب لأنوف آخرين.. لم أتشاءم، لم أعطس من رائحةِ الغبار التي لم تضل طريقها إلى أنفي.. الطريق كان يظهر من شرفتي نائماً أيضاً.. لا أُناس و لا سيارات.. و لا باص ضاحية الرشيد!

هذه المرة الأولى التي لا يصطدم نظري بالباص حين أنظر للطريق!! شعرتُ بجفافٍ في حلقي..
و اندسستُ تحت لحافي الغضِّ بالمنامات الفاضحة.. دون أن أزعج النهار الذي نام باكراً و كانت شفتاهُ مقوستانِ لأعلى, كأنه علِمَ أن الباص لم يمر حين مررتُ بخاطري على الطريق العام المؤدي إليه؛ فابتسم معي..

No comments: